فصل: 55- باب فضل الزهد في الدنيا والحث عَلَى التقلل منها، وفضل الفقر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تطريز رياض الصالحين



.55- باب فضل الزهد في الدنيا والحث عَلَى التقلل منها، وفضل الفقر:

قَالَ الله تَعَالَى: {إِنَّمَا مَثَلُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ والأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيهَا أتَاهَا أمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24].
أصل الزهد الرضا عن الله عزَّ وجلّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «قد أفلح من أسلم، ورزق كفافًا، وقنَّعه الله بم أتاه».
وسُئل الزهري عن الزاهد، فقال: من لم يغلب الحرام صبره، ومن لم يشغل الحلال شكره.
وهذه الآية مثلٌ ضَرَبَهُ الله تعالى لزينة الدنيا، وسرعة زوالها، وفنائها.
وقال تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا المَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَالبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 45، 46].
قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: المال والبنون حرث الدنيا، والأعمال الصالحاتُ حرثُ الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوام.
وقال تَعَالَى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الحَياةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخِرَةِ عَذابٌ شَديدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ الله ورِضْوَانٌ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الغُرُورِ} [الحديد: 20].
الكفار أشد إعجابًا بزهرة الدنيا، وأما المؤمن فإذا رأى معجبًا انتقل فكره إلى قدره الله، وعلم أنه زائل، وقال: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وقوله تعالى: {وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إلا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، أي: كمتاع يدلس به على المستام فيُغَر ويشتريه، فمن اغترَّ بها وآثرها فهو مغرور.
وقال تَعَالَى: {زُيِّنَ لِلْنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالبَنِينَ وَالقَنَاطِيرِ المُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَياةِ الْدُّنْيَا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ المآبِ} [آل عمران: 14].
في هذه الآية تزهيد في الدنيا، وترغيب في الآخرة.
وقال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الحَياةُ الْدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ} [فاطر: 5].
أي: لا يذهلكم التمتع بالدنيا عن طلب الآخرة، والسعي لها، ولا يغرنكم الشيطان بأن يمنِّيكم المغفرة مع الإصرار على المعصية.
قال الله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا} [الأعراف: 169].
وقال تَعَالَى: {ألْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ المَقَابِرَ * كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 1- 5].
أي: لو تعلمون علمًا يقينًا لما ألهاكم شيء عن طلب الآخرة، حتى صرتم إلى المقابر.
وقال تَعَالَى: {وَمَا هذِهِ الحَياةُ الدُّنْيَا إلا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
أي: لو كانوا يعلمون لم يؤثروا الدنيا على الآخرة، التي هي الحياة الحقيقة الدائمة، فإن الدنيا سريعة الزوال، ونعيمها لهو ولعب، كما يبتهج به الصبيان ساعة، ثم يتفرَّقون عنه لاغيين متعبين.
والآيات في الباب كثيرة مشهورة.
وأما الأحاديث فأكثر مِنْ أن تحصر فننبِّهُ بطرف منها عَلَى مَا سواه.
457- عن عمرو بن عوف الأنصاري رضي الله عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بَعَثَ أَبَا عبيدة بنَ الجَرَّاح رضي الله عنه إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأتِي بِجِزْيَتِهَا، فَقَدِمَ بمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، فَسَمِعَتِ الأَنْصَارُ بقُدُومِ أَبي عُبيْدَةَ، فَوَافَوْا صَلاَةَ الفَجْرِ مَعَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا صَلَّى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، انْصَرفَ، فَتَعَرَّضُوا لَهُ، فَتَبَسَّمَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حِيْنَ رَآهُمْ، ثُمَّ قَالَ: «أظُنُّكُمْ سَمعتُمْ أنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ؟» فقالوا: أجل، يَا رسول الله، فقال: «أبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوالله مَا الفَقْرَ أخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلكِنِّي أَخْشَى عليكم أنْ تُبْسَط الدُّنْيَا عَلَيْكُمْ كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، فَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ.
بلاد البحرين: بين البصرة وهَجَرْ، وسميت (البحرين)، لاجتماع البحر العذب والملح فيها، فإن الماء العذب تحت البحر، فإذا حفر الحاجز بينهما نبع العذب وارتفع.
قوله: فتنافسوها كما تنافسوها. التنافس أول درجات الحسد.
وفي رواية عند مسلم: «تَتَنَافَسُونَ ثُمَّ تَتَحَاسَدُونَ ثُمَّ تَتَدَابَرُونَ ثُمَّ تَتَبَاغَضُونَ».
قال ابن بطال: فيه: أن زهرة الدنيا ينبغي لمن فتحت عليه أن يحذر من سوء عاقبتها وشر فتنتها.
458- وعن أَبي سعيد الخدري رضي الله عنه قَالَ: جلس رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، فقال: «إنَّ ممَّا أخَافُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا». متفقٌ عَلَيْهِ.
زهرة الدنيا: زينتها وبهجتها.
قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131].
459- وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ وَإنَّ الله تَعَالَى مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا، فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ، فَاتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ». رواه مسلم.
قوله: «خضرة حلوة»، أي: جامعة بين الوصفين المحبوبين للبصر والذوق، كالفاكهة.
وفي الحديث: التحذير من فتنة المال، وفتنة النساء.
460- وعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اللَّهُمَّ لاَ عَيْشَ إلا عَيْشَ الآخِرَةِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
هذا الكلام قاله النبي صلى الله عليه وسلم في أشد أحواله، لما رأى تعب أصحابه في حفر الخندق، وقاله في أسرِّ الأحوال أيضًا لما رأى كثرة المؤمنين في يوم عرفة، لبيك إن العيش عيش الآخر، أي الحياة الدائمة التي لا حزن فيها ولا تعب.
461- وعنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يَتْبَعُ الْمَيِّتَ ثَلاَثَةٌ: أهْلُهُ وَمَالُهُ وَعَمَلُهُ: فَيَرْجِعُ اثْنَانِ، وَيَبْقَى معه وَاحِدٌ: يَرْجِعُ أهْلُهُ وَمَالُهُ وَيبْقَى عَمَلُهُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
الغالب أنّ المرء إذا مات تبعه أهله، وما احتيج إليه من ماله في تجهيزه، وإذا دفن رجعوا ودخل عمله معه في قبره، كما في حديث البراء. «وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ لَهُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ فَهَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي يَأْتِي بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ». الحديث.
462- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُؤْتَى بِأنْعَمِ أهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لا وَاللهِ يَا رَبِّ، وَيُؤْتَى بِأشَدِّ النَّاسِ بُؤسًا في الدُّنْيَا مِنْ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً في الجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ، هَلْ رَأيْتَ بُؤسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فيَقُولُ: لا وَاللهِ، مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلا رَأيْتُ شِدَّةً قَطُّ». رواه مسلم.
فيه: أن عذاب الآخرة ينسي نعيم الدنيا، وأن نعيم الآخرة ينسي شدَّة الدنيا.
قال الله تعالى: {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ * قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا قَلِيلًا لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:112- 114].
وقال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} [فاطر: 34، 35].
463- وعن المُسْتَوْرِد بن شَدَّاد رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا الدُّنْيَا في الآخِرَةِ إلا مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ أُصْبُعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ يَرْجِعُ؟!». رواه مسلم.
مثَّل صلى الله عليه وسلم زمان الدنيا في جانب زمان الآخرة، ونعيمها بنسبة الماء الملاصق بالأصبع إلى البحر، قال الله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إلا قَلِيلٌ} [التوبة: 38].
464- وعن جابر رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بالسُّوقِ وَالنَّاسُ كَنَفَتَيْهِ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: «أَيُّكُم يُحِبُّ أنْ هَذَا لَهُ بِدرْهَم؟» فقالوا: مَا نُحِبُّ أنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ ثُمَّ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا، أنَّهُ أسَكُّ فَكَيْفَ وَهُوَ ميِّتٌ! فقال: «فوَاللهِ للدُّنْيَا أهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ». رواه مسلم.
قوله: «كَنَفَتَيْهِ» أيْ: عن جانبيه. وَ«الأَسَكُّ»: الصغير الأذُن.
فيه: أن الدنيا عند الله أذل وأحقر من التيس الصغير الأصمع الميت عند الناس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أَلاَ إنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إِلاَّ ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعالِمًا وَمُتَعَلِّمًا».
465- وعن أَبي ذر رضي الله عنه قَالَ: كُنْتُ أَمْشِي مَعَ النَّبي صلى الله عليه وسلم في حَرَّةٍ بِالمَدِينَةِ فَاسْتَقْبَلَنَا أُحُدٌ، فقال: «يَا أَبَا ذَرٍّ» قلت: لَبَّيْكَ يَا رسولَ الله. فقال: «مَا يَسُرُّنِي أنَّ عِنْدِي مِثْلَ أُحُدٍ هَذَا ذَهَبًا تَمْضي عَلَيَّ ثَلاَثَةُ أيّامٍ وَعِنْدِي مِنْهُ دِينَارٌ، إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ، إلا أنْ أقُولَ بِهِ في عِبَادِ الله هكذا وَهَكَذَا وَهكَذَا» عن يَمِينِهِ وعن شِمَالِهِ وَعَنْ خَلْفِهِ، ثُمَّ سَارَ، فقال: «إنَّ الأَكْثَرينَ هُمُ الأَقَلُّونَ يَوْمَ القِيَامَةِ إلاَّ مَنْ قَالَ بالمَالِ هكَذَا وَهكَذَا وَهكَذَا» عن يمينِهِ وعن شِمَالِهِ وِمنْ خَلْفِهِ «وَقَلِيلٌ مَا هُمُ». ثُمَّ قَالَ لي: «مَكَانَكَ لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيكَ» ثُمَّ انْطَلَقَ في سَوادِ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَارَى، فَسَمِعْتُ صَوتًا، قَدِ ارْتَفَع، فَتَخَوَّفْتُ أنْ يَكُونَ أحَدٌ عَرَضَ للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، فَأرَدْتُ أنْ آتِيهِ فَذَكَرتُ قَوْله: «لا تَبْرَحْ حَتَّى آتِيَكَ» فلم أبْرَحْ حَتَّى أتَاني، فَقُلْتُ: لَقَدْ سَمِعْتُ صَوتًا تَخَوَّفْتُ مِنْهُ، فَذَكَرْتُ لَهُ، فقال: «وَهَلْ سَمِعْتَهُ؟» قلت: نَعَمْ، قَالَ: «ذَاكَ جِبريلُ أتَانِي. فقال: مَنْ مَاتَ مِنْ أُمَّتِكَ لا يُشْرِكُ بِاللهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ»، قلت: وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ؟ قَالَ: «وَإنْ زَنَى وَإنْ سَرَقَ». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ البخاري.
اشتمل هذا الحديث: على فوائد كثيرة، وقواعد عظيمة.
وفيه: البشارة بعدم خلود المسلم في النار وإن عمل الكبائر، فإن تاب منها في الدنيا لم يدخل النار إلا تحلة القسم، وإن لم يتب فأمره إلى الله إن شاء غفر له وأدخله الجنة، وإن شاء عذبه. قال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلًا بَعِيدًا} [النساء: 116].
466- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَوْ كَانَ لِي مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، لَسَرَّنِي أنْ لا تَمُرَّ عَلَيَّ ثَلاَثُ لَيالٍ وَعِنْدِي مِنْهُ شَيْءٌ إلا شَيْءٌ أرْصُدُهُ لِدَيْنٍ». متفقٌ عَلَيْهِ.
467- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَلَ مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ؛ فَهُوَ أجْدَرُ أنْ لا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ». متفقٌ عَلَيْهِ، وهذا لفظ مسلم.
وفي رواية البخاري: «إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ وَالخَلْقِ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَل مِنْهُ».
هذا الحديث: جامع لمعاني الخير.
وفيه: دواء كل داء من الحسد وغيره.
وفي الحديث الآخر: «رحم الله عبدًا نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله وشكره، وفي دينه إلى من هو فوقه، فجد واجتهد».
وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا: «خَصْلَتَانِ مَنْ كَانَتَا فِيهِ كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا، وَمَنْ لَمْ تَكُونَا فِيهِ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلاَ صَابِرًا: مَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَاقْتَدَى بِهِ، وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ عَلَى مَا فَضَّلَهُ بِهِ عَلَيْهِ، كَتَبَهُ اللَّهُ شَاكِرًا صَابِرًا. وَمَنْ نَظَرَ فِي دِينِهِ إِلَى مَنْ هُوَ دُونَهُ وَنَظَرَ فِي دُنْيَاهُ إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَهُ فَأَسِفَ عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْهُ لَمْ يَكْتُبْهُ اللَّهُ شَاكِرًا وَلاَ صَابِرًا».
قال بعض السلف: صاحبت الأغنياء فكنت لا أزال في حزن، فصحبت الفقراء فاسترحت.
وفي حديث مرفوع: «أقلوا الدخول على الأغنياء، فإنه أحرى أن لا تزدروا نعمة الله».
468- وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، وَالدِّرْهَمِ، وَالقَطِيفَةِ، وَالخَمِيصَةِ، إنْ أُعْطِيَ رَضِيَ، وَإنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ». رواه البخاري.
في هذا الحديث: ذم الحرص على الدنيا، حتى يكون عبدًا لها، رضاه وسخطه لأجلها.
469- وعنه رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ سَبعِينَ مِنْ أهْلِ الصُّفَّةِ، مَا منهُمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ رِدَاءٌ: إمَّا إزارٌ، وَإمَّا كِسَاءٌ، قَدْ رَبَطُوها في أعنَاقِهِمْ، فَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ نِصْفَ السَّاقَيْن، وَمِنْهَا مَا يَبْلُغُ الكَعْبَيْنِ، فَيَجْمَعُهُ بِيَدِهِ كَراهِيَةَ أنْ تُرَى عَوْرَتُهُ. رواه البخاري.
في هذا الحديث: أن الدنيا لو كانت مكرَّمة عند الله، لخصَّ أصفياءه بِهَا، فإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب.
470- وعنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ». رواه مسلم.
معنى ذلك: أن الدنيا سجن المؤمن بالنسبة إلى ما أعد له من النعيم، وجنة الكافر بالنسبة إِلى ما أعد له من العذاب، وأيضًا فإن المؤمن ممنوع من الشهوات المحرمة، والكافر منهمك فيها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «حُفَّتِ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ».
وعن أبي سهل الصعلوكي الفقيه، وكان ممن جمع رياسة الدين والدنيا، أنه كان في بعض مواكبه إذْ خرج عليه يهودي، بثياب دنسة، فقال: ألستم تزعمون أن نبيكم قال: «الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ، وَجَنَّةُ الكَافِرِ؟» وأنا كافر وترى حالي، وأنت مؤمن وترى حالك، فقال له: إذا صرت غدًا إلى عذاب الله كانت هذه جنتك، وإذا صرت أنا إلى النعيم، ورضوان الله صار هذا سجني، فعجب الناس من فهمه وسرعة جوابه.
471- وعن ابن عمر رضي الله عنهما، قَالَ: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بِمَنْكِبَيَّ، فقال: «كُنْ في الدُّنْيَا كَأنَّكَ غَرِيبٌ، أَو عَابِرُ سَبيلٍ».
وَكَانَ ابن عُمَرَ رضي الله عنهما، يقول: إِذَا أمْسَيتَ فَلا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلا تَنْتَظِرِ المَسَاءَ، وَخُذْ مِنْ صِحَّتِكَ لِمَرَضِكَ، وَمِنْ حَيَاتِكَ لِمَوْتِكَ. رواه البخاري.
قالوا في شَرْحِ هَذَا الحديث معناه: لا تَرْكَنْ إِلَى الدُّنْيَا وَلا تَتَّخِذْهَا وَطَنًا، وَلا تُحَدِّثْ نَفْسَكَ بِطُولِ البَقَاءِ فِيهَا، وَلا بِالاعْتِنَاءِ بِهَا، وَلا تَتَعَلَّقْ مِنْهَا إلا بِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْغَريبُ في غَيْرِ وَطَنِهِ، وَلا تَشْتَغِلْ فِيهَا بِمَا لا يَشْتَغِلُ بِهِ الغَرِيبُ الَّذِي يُريدُ الذَّهَابَ إِلَى أهْلِهِ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ.
في هذا الحديث: الحضُّ على تقصير الأمل، والمبادرة إلى العمل، وترك التراخي والكسل.
في الحديث الآخر: «اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ, وَصِحَّتَكَ قَبْلَ سَقَمِكَ, وَغِنَاكَ قَبْلَ فَقْرِكَ , وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغُلُكَ, وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ».
472- وعن أَبي العباس سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يَا رسولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ أحَبَّنِي اللهُ وَأحَبَّنِي النَّاسُ، فقال: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبّك اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبّك النَّاسُ». حديث حسن رواه ابن ماجه وغيره بأسانيد حسنة.
اشتمل هذا الحديث على وصيتين عظيمتين فإذا عمل بهما أحبه الله وأحبه الناس.
والزهد: هو القناعة بما أعطاك الله، والتعفف عن أموال الناس، وكان عمر يقول على المنبر: إنَّ الطمع فقر وإنَّ اليأس غنى.
وقال أيوب السختياني: لا يقبل الرجل حتى تكون فيه خصلتان، العفة عما في أي الناس، والتجاوز عما يكون منهم.
وفي الحديث المرفوع: «حب الدنيا رأس كل خطيئة».
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
وما هي إلا جيفة مستحيلة ** عليها كلاب هَمُّهُن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلمًا لأهلها ** وإن تجتذبها نازعتك كلابها

473- وعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قَالَ: ذَكَرَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي الله عنه مَا أَصَابَ النَّاسُ مِنَ الدُّنْيَا، فَقَالَ: لَقَدْ رَأيْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَلْتَوِي مَا يَجِدُ مِنَ الدَّقَلِ مَا يَمْلأ بِهِ بَطْنَهُ. رواه مسلم.
«الدَّقَلُ» بفتح الدَّال المهملة والقاف: رديءُ التمرِ.
فيه: زهده صلى الله عليه وسلم وصبره، وحقارة الدنيا عنده، فإن الله تعالى خيره في أنْ يكون ملكًا نبيًا أو عبدًا نبيًا فاختار أن يكون عبدًا، وقال: «يَا رَبِّ، أَجُوعُ يَوْمًا وأَشْبَعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ سألتك، وَإِذَا شَبِعْتُ شكرتك».
474- وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وَمَا في بَيْتِي مِنْ شَيْءٍ يَأكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إلا شَطْرُ شَعِيرٍ في رَفٍّ لي، فَأكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ فَفَنِيَ. متفقٌ عَلَيْهِ.
قولها: «شَطْرُ شَعير» أيْ: شَيْءٌ مِنْ شَعير،، كَذَا فَسَّرَهُ التُرْمذيُّ.
في هذا الحديث: إعراضه صلى الله عليه وسلم عن الدنيا، وعدم النظر إليها.
وفيه: استحباب عدم كيل القوت توكلًا على الله، وثقة به فإن تكثير الطعام القليل من أسرار الله الخفية، ولا يخالف هذا الحديث: «كيِّلوا طعامكم يبارك لكم فيه».
قال الحافظ: الكيل عند المبايعة محبوب من أجل تعلق حق المتبايعين وأما الكيل عند الإنفاق فالباعث عليه الشح؛ فلذا كُرِه.
475- وعن عمرو بن الحارث أخي جُوَيْرِيّة بنتِ الحارِث أُمِّ المُؤْمِنِينَ، رضي الله عنهما، قَالَ: مَا تَرَكَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عِنْدَ مَوْتِهِ دِينارًا، وَلا دِرْهَمًا، وَلا عَبْدًا، وَلا أَمَةً، وَلا شَيْئًا إلا بَغْلَتَهُ الْبَيضَاءَ الَّتي كَانَ يَرْكَبُهَا، وَسِلاَحَهُ، وَأرْضًا جَعَلَهَا لاِبْنِ السَّبِيلِ صَدَقَةً. رواه البخاري.
فيه: أن الإماء والعبيد الذين ملكهم النبي صلى الله عليه وسلم في حياته لم يبقوا على ملكه بعد وفاته، فمنهم من أعتقه، ومنهم من مات قبل وفاته صلى الله عليه وسلم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة».
476- وعن خَبابِ بن الأَرَتِّ رضي الله عنه قَالَ: هَاجَرْنَا مَعَ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ اللهِ تَعَالَى، فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى اللهِ، فَمِنَّا مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَأكُل منْ أجْرِهِ شَيْئًا، مِنْهُمْ: مُصْعَبُ بن عُمَيْرٍ- رضي الله عنه، قُتِلَ يَوْمَ أُحُد، وَتَرَكَ نَمِرَةً، فَكُنَّا إِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ، بَدَتْ رِجْلاَهُ، وَإِذَا غَطَّيْنَا بِهَا رِجْلَيْهِ، بَدَا رَأسُهُ، فَأمَرَنَا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنْ نُغَطِّي رَأسَهُ، وَنَجْعَل عَلَى رِجْلَيْهِ شَيْئًا مِنَ الإذْخِرِ، وَمِنَّا مَنْ أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ، فَهُوَ يَهْدِبُهَا. متفقٌ عَلَيْهِ.
«النَّمِرَةُ»: كِساءٌ مُلَوَّنٌ مِنْ صوف. وَقَوْلُه: «أيْنَعَتْ» أيْ: نَضِجَتْ وَأَدْرَكَتْ. وَقَوْلُه: «يَهْدِبها» هُوَ بفتح الياءِ وضم الدال وكسرها لغتان: أيْ: يَقْطُفهَا وَيَجْتَنِيهَا، وهذه استعارة لما فتح الله تَعَالَى عليهم من الدنيا وتمكنوا فِيهَا.
في هذا الحديث: ما كان عليه السلف من الصدق في وصف أحوالهم.
وفيه: أن الصبر على مكابدة الفقر وصعوبته من منازل الأبرار.
وفيه: أن الكفن يكون ساترًا لجميع البدن.
477- وعن سهلِ بن سعد الساعدي رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَوْ كَانَت الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ الله جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: حقارة الدنيا عند الله تعالى، ولهذا ملَّكها تعالى في الغالب للكفار والفساق لهوانهم عليه، وحَمَى منها في الغالب الأنبياء والصالحين لئلا تُدَنَّسَهُم.
478- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «أَلا إنَّ الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ مَا فِيهَا، إلا ذِكْرَ اللهِ تَعَالَى، وَمَا وَالاهُ، وَعالِمًا وَمُتَعَلِّمًا». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
فيه: ذم ما أشغل من الدنيا عن ذكر الله وطاعته، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9]، وأما ما أعان على طاعة الله من الدنيا فليس بمذموم، قال تعالى: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ} [النور: 37]، وفي حديث مرفوع: «لا تسبوا الدنيا فنعم مطية المؤمن عليها يبلغ الخير، وبها ينجو من الشر».
479- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَتَّخِذُوا الضَّيْعَةَ فَتَرْغَبُوا في الدُّنْيَا». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
الضيعة: العقار الذي يحتاج إلى عمل، والمراد لا تتوغلوا في ذلك فترغبوا عن صلاح آخرتكم وتشتغلوا في طلب الدنيا فلا تشبعوا منها.
480- وعن عبدِ الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قَالَ: مَرَّ عَلَيْنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ نعالِجُ خُصًّا لَنَا، فَقَالَ: «مَا هَذَا؟» فَقُلْنَا: قَدْ وَهَى، فَنَحَنُ نُصْلِحُهُ، فَقَالَ: «مَا أرَى الأَمْرَ إلا أعْجَلَ مِنْ ذَلِكَ».
رواه أَبو داود والترمذي بإسناد البخاري ومسلم، وقال الترمذي: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
الخُصُّ: بيت يعمل من القصب ونحوه.
وفيه: شاهد لحديث ابن عمر: «إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح».
481- وعن كعب بن عياض رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: «إنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ فِتْنَةً، وفِتْنَةُ أُمَّتِي: المَالُ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
قوله: «فتنة»، أي: ابتلاء واختبار. قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35]، وقال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 28].
482- وعن أَبي عمرو، ويقالُ: أَبو عبدِ الله، ويقالُ: أَبو ليلى عثمان ابن عفان رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ لاِبْنِ آدَمَ حَقٌّ في سِوَى هذِهِ الخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الخُبز وَالماء». رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح».
قَالَ الترمذي: سَمِعْتُ أَبَا دَاوُد سُلَيْمَانَ بنَ سَالمٍ البَلْخيَّ، يقولُ: سَمِعْتُ النَّضْرَ بْن شُمَيْل، يقولُ: الجِلْفُ: الخُبْز لَيْسَ مَعَهُ إدَامٌ، وقال غَيْرُهُ: هُوَ غَليظُ الخُبُزِ. وقَالَ الهَرَوِيُّ: المُرادُ بِهِ هنَا وِعَاءُ الخُبزِ، كَالجَوَالِقِ وَالخُرْجِ، والله أعلم.
الحق هنا: ما يستحقه الإِنسان لاحتياجه إليه في كُنه من الحر والبرد، وستر بدنه، وسد جوعته، وما سوى ذلك فهو من حظوظ النفس لا من حقوقها.
قال بعض الزهاد:
لَقِرْص شعير ثافل غير مالح ** بغير إدام والذي خلق النجوى

مع العزِّ في بيتي وطاعة خالقي ** ألذُّ على قلبي من المنِّ والسلوى

483- وعن عبدِ الله بن الشِّخِّيرِ- بكسر الشينِ والخاء المشددة المعجمتين- رضي الله عنه، أنه قَالَ: أتَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقْرَأُ: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} قَالَ: «يَقُولُ ابْنُ آدَمَ: مَالِي، مالي، وَهَلْ لَكَ يَا ابْنَ آدَمَ مِنْ مَالِكَ إلا مَا أكَلْتَ فَأفْنَيْتَ، أَو لَبِسْتَ فَأَبْلَيْتَ، أَوْ تَصَدَّقْتَ فَأَمْضَيْتَ؟»!. رواه مسلم.
أي ليس لك من مالك إلا ما انتفعت به في دنياك، بأكل أو لبس أو ادخرته لآخرتك، وما سوى ذلك فهو لورثتك.
قال بعض السلف: اجعل ما عندك ذخيرة لك عند الله، واجعل الله ذخيرة لأولادك.
484- وعن عبدِ الله بن مُغَفَّل رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: يَا رسولَ الله، وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، فَقَالَ له: «انْظُرْ مَاذَا تَقُولُ؟» قَالَ: وَاللهِ إنِّي لأُحِبُّكَ، ثَلاَثَ مَرَّات، فَقَالَ: «إنْ كُنْتَ تُحِبُّنِي فَأَعِدَّ لِلْفَقْرِ تِجْفَافًا، فإنَّ الفَقْرَ أسْرَعُ إِلَى مَنْ يُحِبُّني مِنَ السَّيْلِ إِلَى مُنْتَهَاهُ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ).
«التجفافُ» بكسرِ التاءِ المثناةِ فوقُ وَإسكانِ الجيمِ وبالفاءِ المكررة: وَهُوَ شَيْءٌ يُلْبَسُهُ الفَرَسُ، لِيُتَّقَى بِهِ الأَذَى، وَقَدْ يَلْبَسُهُ الإنْسَانُ.
لما كان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، كان المحب التابع له متّصف بذلك لقوة الرغبة، وصدق المحبة فالمرء مع من أحب، ومولى قوم منهم في العسر واليسر فمن أحب أن يكون معهم في نعيم الآخرة فليصبر كما صبروا في الدنيا. قال تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: 142].
485- وعن كعب بن مالك رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلا في غَنَمٍ بِأفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينهِ». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: الحذر من الحرص على المال والشرف، فإن حب الدنيا رأس كل خطيئة، ورزق الله لا يجره حرص حريص، ولا يرده كراهية كاره، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يَا عبد الرحمن بن سمرة، لا تسأل الإِمارة فإنك إن أعطيتها عن غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها».
486- وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: نَامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى حَصيرٍ، فَقَامَ وَقَدْ أثَّرَ في جَنْبِهِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، لَوْ اتَّخَذْنَا لَكَ وِطَاءً. فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا؟ مَا أَنَا في الدُّنْيَا إلا كَرَاكِبٍ اسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرَةٍ ثُمَّ رَاحَ وَتَرَكَهَا». رواه الترمذي، وقال: (حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحيحٌ).
فيه: الإِرشاد إلى ترك الاهتمام بِعَمارة الدنيا، والحث على الاعتناء بعمارة منازل الآخرة، وأن الدنيا دار عبور إلى دار الحبور.
487- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدْخُلُ الفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِمائَةِ عَامٍ». رواه الترمذي، وقال: «حديث صحيح».
فيه: فضل الفقير الصابر على الغني الشاكر، لأن الأغنياء يحبسون للحساب.
488- وعن ابن عباس وعِمْرَانَ بن الحُصَيْنِ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «اطَّلَعْتُ في الجَنَّةِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا الفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ في النَّارِ فَرَأيْتُ أكْثَرَ أهْلِهَا النِّسَاءَ». متفقٌ عَلَيْهِ من رواية ابن عباس، ورواه البخاري أيضًا من رواية عِمْرَان بن الحُصَيْن.
فيه: التحريض على ترك التوسع في الدنيا.
وفيه: التحريض للنساء على المحافظة على أمر الدين ليسلمن من النار.
489- وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةُ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ، وَأصْحَابُ الجَدِّ مَحبُوسُونَ، غَيْرَ أنَّ أصْحَابِ النَّارِ قَدْ أُمِرَ بِهِم إِلَى النَّارِ». متفقٌ عَلَيْهِ.
وَ «الجَدُّ»: الحَظُّ والغِنَى. وقد سبق بيان هَذَا الحديث في باب فَضْلِ الضَّعفَة.
أصحاب النار هنا: هم الخالدون فيها، وهم الكفار، قال الله تعالى: {لا يَصْلاهَا إِلا الأَشْقَى} [الليل: 15]، وقال تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71]، وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن: 55].
490- وعن أَبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلا اللهَ بَاطِلُ». متفقٌ عَلَيْهِ.
يشهد لهذا البيت قوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ} [القصص: 88]، كان لبيد من فحول شعراء الجاهلية، وهو من هوازان، وَفَدَ على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم، وحسن إسلامه، وكان من المعمرين، عاش فوق مائة سنة، وكان شريفًا في الجاهلية والإسلام، ولم يقل شعرًا بعد إسلامه، وكان يقول: أبدلني الله به القرآن إلا بيتًا واحدًا:
ما عاتب المرءَ الكريم كنفسه ** والمرء يصلحه القرين الصالح

قال الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يُزري ** لكنت اليوم أشعرَ من لبيد